الكاتب : تحسين يقين
ماذا قالت مريم؟ وماذا قالت الفنانة؟ ماذا قالتا؟
إنها الإنسانة، وإنهما، وإنهن، في سياق تحديات العيش في ظل الاستلاب وما يستولده من استلابات. إنها مريم الإنسانة المرأة، التي وهي تحرر وطنها لا تنسى تحرير نفسها مما علق بها من قيود.
وإنه الوطن بكامل جماله، وألوانه، تلكما الطبيعتان الأرض والبشر، اللتان تمازجتا، فذاب الإنسان في الطبيعة أو ذابت فيه، كأن تكوين المكان هكذا قد خلق، شعب حيّ على أرضه يحيا.
ما إن نطل على اللوحات المعلقة في جاليري "باب الدير" برام الله، حتى تجد نفسك متجولا في الأرض زائرا البيوت وفضاءاتها، ترى الفلسطينيين المنسجمين مع مكانهم، ثم لنجد أنفسنا في زيارات النفوس، أكان ذلك من خلال حوارهم، أو من خلال الحوار الداخلي لكل واحد منهم.
قدمت الفنانة معرضها بعبارة فلسطينية بامتياز: "يخرجن من بين الركام، لا لأنهن اخترن، بل لأن الحياة لم تمنحهن خيارا آخر"، كوصف لهن من جهة، وكمعبر عن الإرادة من جهة أخرى، مذكرتنا بقصيدة جفرا لسميح القاسم:
بعض الاغاني صرخة لا تطرب
فإذا استفزتكم أغاني اغضبوا
يا منشئين على خرائب منزلي
تحت الخرائب نقمة تتقلب
مريم، وحب عند شجرة الخروب، وحفلة الحنة، فالعروس، فالكرمة، والنافذة، والحلم، والترقب، والملاذ، والقرنفل، فالفقد، وتسابيح، تكاد تروي قصة مريم التي استلهمتها الفنانة، لتعبر من خلال قصتها قصة نساء فلسطين تحت الاحتلال.
تلك اللوحات التي نثرتها بدون ترتيب، كي نرى نحن، وكي نعيد ترتيب الفصول لامرأة فلسطينية، منذ كانت فتاة الأحلام، ثم لتقترن بشريك الحياة، والذي سيبدو أنه متعلق بالوطن الجميل، حيث يدخل الزوج في حالة تنازع ما بين البيت والزوجة والأطفال والوطن؛ فلم يمر غير قليل من الوقت على الاقتران، حتى تبدأ الانتفاضة الثانية، كما يبدو من سياق اللوحات و"نص الكاتولوج"، فينضم الزوج-الحبيب الى المطاردين، حيث يقضي الوقت خارج البيت، والذي يزوره خفية، قادما من البراري، متسللا في عجالة من أمره.
فصول حياة مريم، الحالمة والمحبة، كأي فتاة، ثم لتبدأ قصة الحب، تحت شجرة الخروب، حيث تشاركهما الطبيعة فرحتهما، فتبدأ فصول الزواج بدءا بحفلة الحنة وإعداد العروس، ليكونا معا تحت شجرة العنب، لينمو حلم الحياة بإنشاء أسرة وبيت خاصة بعد حملها الأول، لكن، وكما عبرت لوحة "النافذة" فقد غلب على الزوج اختيارهما معا، هي والوطن، فصارت حياتهما على الحذر والترقب، الذي صار لوحة تعبّر عن المرأة وطفلها وهما ينتظران تسلله الى البيت. ثم لتصير الأم مع طفلاتها ينتظرنه، أو كأنهن ينظرن نحو المستقبل كما في لوحة قرنفل، كذلك حين تبدأ الأم بإعداد طفلها لتستند عليه في رحلة الحياة.. ثم ليدخل الثوب الأسود بعد استشهاده فيكون "فقد"، و"تسابيح"، اللوحة التي تجلس المرأة الثكلى وهي تربي وليدها الأمل بالغد:
إن كان جذعي للفؤوس ضحية
جذري إله في الثرى يتأهب
هذا انا عريان الا من غد
أرتاح في أفيائه او اصلب
ولأجل عينيه وأعين إخوتي
أمشي .. وأعطي الدرب ما يتطلب
تلك كلمات الراحل سميح القاسم، الذي جعل الأمل المتحقق في الغد غطاءا دافئا للفلسطينيين الذين استمروا بالإلحاح على قدوم الغد والأمل معا.
في لوحات رانية العامودي نحن إزاء مشاهد حية، هي فصول روتها الفنانة بريشتها، لنساء أريد لهن التغييب، فكان حلمهن الإصرار على الحياة، حياتهن وحياة الأطفال معا.
في نص الكاتولوج المرافق، ثم رؤية ذاتية اجتماعية نقدية بنت عليها الفنانة العامودي معرضها، لإقصاء فكرة نفي المرأة عن الحياة، فهي مصدر الحياة، ولها أن تحيا بعيدا عما ارتبط بها من صور نمطية تحرمها العيش العادي كأي امرأة.
تروي الفنانة عما سكنها في اللاوعي عن امرأة كانت ملآى بالحياة، كأي امرأة لها أحلام ولها حياة زوجية وأطفال، وكيف كانتا تقضيان جزءا من الوقت معا في الحديث والشراء، دون أن تنتبه لها، ثم لتكتشف أثناء سيرهما معا أن صورة الشهيد المعلقة في المدينة لزوجها حين يندفع طفلها ليقبل بوستر الصورة. وقتها أدركت الشابة الصغيرة أنها كانت ملجأ السيدة لتعيش معها بعض الوقت كامرأة عادية، في الوقت الذي خلع المجتمع عليها وعلى مثيلاتها صفة القداسة.
وهكذا عادت الفنانة حديثا لتلك الحادثة، ربما لتنتصر لمريم، أو لتعتذر عما يسلكه المجتمع تجاهها وتجاه المريميات الأخريات.
لعلها قصة "المريميات" بجرأة ناقدة لسلوك المجتمع تجاه هؤلاء النساء زوجات الشهداء وأمهاتهم وأخواتهم، حين يتم التضييق على أحلامهن بالحياة أو حتى التعبير عنها.
لعبت الفنانة من خلال لون الفستان الأحمر، المعبر عن بهجة الحياة، لكنها حين رسمت الفستان بعد الفقد، فقد صار أسود.
تلك العادات والتقاليد التي تنفي المرأة الفاقدة، تزيد من آلام النساء، لذلك يجيء هذا المعرض للتوعية الإنسانية، حيث أن فقد الزوج، لا يعني فقد الحياة.
تفتح الفنانة رانية العامودي من خلال لوحات تعبيرية متقنة قضية المرأة، من خلال البعدين الاجتماعي والبعد الوجودي العميق، في الاشتباك الشعوري للنساء الفاقدات. ولعل المعنى الوجودي العميق هو ما التفكير بمسؤولية فيما يتم تكبيلنا به، وتنميطنا، وتقييدنا، حتى لكأننا نصبح أسرى الصوت والحركة والشعور. أضف لذلك ما هو عميق في الأدوار، وممارسة الحياة فعلا.
الوطن والناس، هو ما يراه الزائر للمعرض، وهو المحيط الذي عاشت فيه مريم، والمريميات الأخريات؛ فمن ناحية نعيش المكان بناسه، وطبيعته، كذلك نتأمل مشاعر مريم التي أرادت استئناف الحياة، لا أن يكون فقدها مضاعفا.
إنه الفضاء الواسع، بهذه الطبيعة الكريمة الجميلة، التي تمنح مريم الحياة، وهي الطبيعة نفسها التي كانت حاضنة للمطارد قبل استشهاده.
ثمة علاقة فريدة بين تحرر الأرض والإنسان، كون الحرية منظومة، بدءا بحرية بسيطة تحقق مريم بها ما يسعدها، وحرية وطن تمارس الطبيعة دورها وتستأنف حياتها بكل جمال ومحبة. لعل السؤال النفسي والاجتماعي والسياسي أيضا.
لقد اختارت الفنانة تقديم أعمال فنية، لوحات تذكرنا بالفن الفلسطيني والعربي في مراحل ازدهاره، من خلال الانحياز للفن الجاد، والمتقن، الذي تكون اللوحة فيه عملا فنيا يعيش طويلا. وبهذا تؤكد الفنانة العامودي حضورها الفاعل فنا وعمقا فكريا واجتماعيا باتجاه جمالي ونقديّ معا، على طريق الارتقاء بالفن وتحرير الأرض والإنسان.
في المعرض الشخصي الرابع للفنانة، بعد معارض أمل، وحضور و1911، تتابع الفنانة بحثها في فضاءات النفس والوطن والحياة، بمصداقية وعمق وأداء فني عال المستوى.