الكاتب : مالك زبلح
فيما يلي قراءة نقدية في رمزية المؤسسات الأهلية الفلسطينية بين الواقع والمأمول في ظل الأزمات المختلفة :
"أنا لا أملك السلطة في القدس، لكنني أشتري الزمن… أشتري زمنًا لشعبنا في هذه المدينة." — الراحل فيصل الحسيني
بهذه الكلمات المختزلة، رسم الراحل فيصل الحسيني ملامح فلسفة الصمود المدني في القدس، لم يكن حديثه عن الزمن استعارة لغوية عابرة، بل تشخيصًا عميقًا لمعركة متواصلة تُخاض يوميًا بين البقاء والمحو، بين الذاكرة والاستلاب، بين الحضور القسري للاحتلال وغياب السيادة الوطنية.
في مدينة تُخاض فيها المعركة على أدق التفاصيل - من الاسم إلى العنوان، من المدرسة إلى الحي، من المستشفى إلى النادي - لا تعود "المؤسسة الأهلية" مجرد بنية إدارية تُقدّم خدمات، بل تتحوّل إلى مساحة رمزية لحفظ الزمن الفلسطيني، الزمن هنا لا يُقاس بالساعات، بل بالقدرة على البقاء في المكان، على قول الكلمة، على حفظ الرموز الوطنية والمعنوية، على الاستمرار في الحياة دون تحوُّل تدريجي إلى نكرة ضمن سياق تهويدي ممنهج.
لا تنطلق هذه القراءة من حنين إلى الماضي، بل من قلق واقعي تجاه الحاضر، وتساؤل جوهري:
هل ما زالت المؤسسات الأهلية في القدس تشتري زمنًا لأهلها؟
أم أنها، في سبيل ديمومة بيروقراطية مشروطة، باتت تُفرِّط في الزمن الرمزي الذي شكّل جوهر حضورها؟
نعيش اليوم لحظة ثقافية كثيفة، تختبر فيها القدس قدرة مؤسساتها على الاستمرار، لا كمجرد "مزود خدمات"، بل كحاملٍ لهوية، وفاعل في معركة البقاء الثقافي والسياسي، فحين تُفرغ المؤسسة من مشروعها الوطني، تتحوّل إلى مجرّد آلةٍ للتمويل والتنفيذ، لا إلى ذاكرةٍ حية لمدينةٍ تُخاض فيها المعارك بالأبنية كما بالكلمات، بالدواء كما بالرمز، وبالخدمة كما بالموقف.
أولًا: المؤسسات الأهلية كمساحات للسيادة الرمزية ..
برزت المؤسسات الأهلية منذ احتلال الشطر الشرقي للمدينة عام 1967، كاستجابة مجتمعية للفراغ السياسي الذي فرضه الاحتلال، لكنها لم تبقَ حبيسة الدور الخدماتي التقني، ومع مرور الوقت، تطور دور المؤسسات الأهلية الفلسطينية إلى كيانات تمارس السيادة بالنيابة عن سلطة غائبة، وتُعيد تعريف مفهوم "الوجود الوطني" من خلال الفعل اليومي في الشارع المقدسي.
شكلت المؤسسة الأهلية الفلسطينية في أحياء المدينة المقدسة، أكثر من مجرد مساحة تنظيمية؛ بل مأوى لهوية تتعرّض للمحو، وموقعًا يُنتج فيه الفلسطيني يوميًا علاقة جديدة مع مدينته، ليس عبر القوة، بل عبر الحضور العضوي والدؤوب.
ثانيًا: في قلب الأزمات... اختبار الرمزية ..
تُظهِر المحطات التاريخية الكبرى في حياة المدينة مدى مركزية المؤسسات الأهلية في اللحظات الحرجة. فعلى سبيل المثال، وأثناء جائحة كورونا، تحوّلت بعض المؤسسات العاملة في القطاعات المجتمعية والتعليمية والصحية إلى لجان طوارئ فعّالة، واجهت خطر الانهيار الصحي والاجتماعي بإمكانيات محدودة، لكنها مشحونة بروح الانتماء والمسؤولية.
أما في أعقاب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد واجهت المؤسسات الثقافية في القدس اختبارًا مؤلمًا؛ إذ غابت ردود الفعل، وخفت الصوت الرمزي، وافتُقدت القدرة على تحويل الغضب الشعبي إلى فعل ثقافي مقاوم، وكأن المدينة، التي لطالما كانت منصة للوعي، قد تحوّلت إلى مرآة للصمت.
ثالثًا: التمويل كأداة ترويض لا تمكين ..
لا يمكن قراءة المشهد المؤسساتي المقدسي دون التوقف عند معضلة التمويل، ما بدأ كرافعة تشغيلية صار اليوم قيدًا على الهوية والموقف، وغالباً ما يكون التمويل الدولي مشروطًا يُعيد صياغة أولويات المؤسسة، ويحوّلها من فاعل وطني إلى مقاول منفّذ، هكذا، تُستبدل مفردات "التحرير" و"الصمود" بمفاهيم "التمكين" و"الاستدامة"، ويغدو الخطاب المؤسساتي أقرب إلى تقارير الأداء منه إلى التعبير عن روح المدينة، ومع مرور الوقت، بدأت معظم المؤسسات تفقد وظيفتها الرمزية، وتحوّلت إلى إدارة خالية من الخطاب والعمق الوطني.
رابعًا: تحديات الداخل — فجوة وتكرار وجمود ..
تواجه المؤسسات الأهلية الفلسطينية في القدس، إلى جانب التحديات الخارجية، تحديات داخلية لا تقل خطرًا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ضعف الحوكمة، غياب الشفافية، استئثار النخب التقليدية، وتراجع استثمارها في الكوادر المحلية. يُضاف إلى ذلك انكفاءٌ متزايدا عن الشارع، ولغةٌ نُخبوية تُنتج مسافة مع الجيل الجديد، وتحديدًا في قطاعات كالثقافة، والرياضة، والريادة، والتكنولوجيا، يُسجَّل غياب واضح في التجديد، وفي طرح مشاريع تتفاعل مع واقع الشباب المقدسي وتخاطب همومه بلغة العصر لا بلغة الماضي.
خامسًا: بين الانتماء والانفصال — أزمة ثقة ..
يتنامى في الشارع المقدسي شعور بأن بعض المؤسسات لم تعد تمثّل الناس، بل تمثّل الجهات المانحة، لغة الخُطب والمشاريع الجاهزة لم تعد تُقنع الجيل الذي يعيش التهجير والعزل والجدران يوميًا، يريدون مؤسسة تحكي لغتهم، لا مؤسسة تُحدّثهم بلغة المانحين، في ظل هذا الانفصال، تتآكل المكانة الرمزية للعمل الأهلي، وتُفتح ثغرات أمام مشاريع إسرائيلية تملأ الفراغ، بما فيها برامج "الاندماج" و"الاحتواء" التي تسعى لضم الشباب المقدسي ضمن بنى الاحتلال الاجتماعية والإدارية.
سادسًا: مفترق طرق... بين فعل السيادة أو انفصام الدور ..
تصل المؤسسات اليوم إلى لحظة مفصلية: إما أن تُعيد صياغة دورها كأدوات مقاومة ثقافية ومدنية سلمية وفق القانون الدولي، تعي دورها الرمزي في معركة الهوية، أو أن تتحوّل تدريجيًا إلى كيانات إدارية بلا روح، تُنفّذ مشروعات لا تنتمي للسياق، وتُراكم وجودًا بيروقراطيًا هشًا، إن استمرار المؤسسة، لا يعني بالضرورة استمرار هوية القدس، البقاء الفيزيائي بلا مشروع وطني، لا يُنتج حلولًا واقعية، بل يُنتج تطبيعًا ناعمًا مع الاحتلال.
سابعًا: توصيات لبناء زمن جديد في المدينة الرمز ..
- إطلاق إطار تنسيقي جامع يضم مؤسسات القطاعات الكبرى تحت مظلة مشتركة تُوحّد الصوت والاتجاه، وتعزز التكامل بدل التنافس.
- إنشاء صندوق دعم سيادي محلي يضم مؤسسات القطاعات الكبرى تحت مظلة مشتركة تُوحّد الصوت والاتجاه، وتعزز التكامل بدل التنافس.
- تجديد الخطاب الثقافي والإعلامي ليعبّر عن نبض الشارع المقدسي، لا عن مزاج الجهة المانحة، بما يعيد للثقافة دورها في التعبير عن الألم والأمل.
- تأهيل الكوادر المؤسسية محليًا، من خلال برامج تدريب مستمرة، وفتح المجال أمام طاقات شبابية جديدة لتتولى مهام القيادة والتنفيذ بروح متجددة.
- إعادة ربط المؤسسات بالبنى المجتمعية القاعدية مثل المدارس، الأندية، المساجد، والكنائس، في إطار تحالف وطني اجتماعي يعيد للمؤسسة جذورها المجتمعية.
- تبني مشاريع تكنولوجية وريادية تُعيد توصيل القدس بعصرها، وتُحدِث اختراقات نوعية في العمل الرمزي والمؤسسي، خاصة لدى الأجيال الشابة.
- تعزيز التعامل الإبداعي والخلاق مع ضغوطات وقيود الاحتلال عبر تحويل القيود المفروضة إلى فرص للابتكار في الفعل الثقافي والاجتماعي، وتطوير أدوات رمزية بديلة تعبّر عن الصمود وتجدّد الخطاب المقدسي.
- تفعيل الحضور الوطني للمؤسسات على الساحة الدولية من خلال توثيق الانتهاكات، والمشاركة في المحافل الحقوقية والثقافية، بوصفها خط الدفاع المدني الأخير عن الوجود الفلسطيني في القدس.
من الدفاع إلى صناعة الأمل ..
القدس اليوم لا تحتاج فقط من "يشتري لها زمنًا"، بل من يصنع لها زمنًا جديدًا، في مدينة تواجه مشروع محو شاملا، تصبح المؤسسة الأهلية قلب المعركة — لا لأنها تحمل السلاح، بل لأنها تحمل الحكاية، لأنها تبني علاقة الناس مع مدينتهم، وتحمي ذاكرتهم من الانقراض.
"اشترِ زمنًا في القدس"، لم تكن شعارًا، بل خطة نجاة، والمؤسسة التي تفهم هذا، تتحوّل من مزوّد خدمات إلى منتِج للمعنى، من منفّذ لبرامج إلى صانع لثقافة البقاء.