الفلسفة الوضعية هي اتجاه فلسفي يقوم على استبعاد الميتافيزيقا والتأملات المسبقة، ويركز حصريًا على المعطيات التجريبية المستمدة من الحواس والملاحظة العلمية. يُعد الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت مؤسس هذا التيار، وهو أول من أطلق مصطلح علم الاجتماع على العلم الذي يدرس المجتمع وفق أسس علمية. وقد تطورت الوضعية من أفكار كونت لتأخذ أشكالًا متعددة لاحقًا، مثل الوضعية التجريبية، والوضعية المنطقية، والتجريبية المنطقية، حتى اندمجت في منتصف القرن العشرين ضمن الفلسفة التحليلية، وهي تيارات تشترك جميعها في تفسير العلم وفق منهج علمي دقيق.
أصل الفلسفة الوضعية :
ترجع جذور الفلسفة الوضعية إلى أعمال الفلاسفة البريطانيين أمثال فرانسيس بيكون، وجون لوك، وجورج بيركلي، وديفيد هيوم، الذين أسهموا في ترسيخ التجريبية كأساس للمعرفة. وفي القرن التاسع عشر، جاء جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل ليطورا هذا الاتجاه، في سياق التأثيرات الكبرى للثورة الصناعية والتفاؤل بقوة العلوم والتكنولوجيا لتحقيق التقدم الاجتماعي. وقد نشأت الوضعية من قناعة بأن العلم هو المصدر الحقيقي للمعرفة، وأن التقدم العلمي كفيل بتحقيق الإصلاح الاجتماعي.
خصائص الفلسفة الوضعية:
ترتكز الوضعية على منهج يعتمد على جمع الأدلة العلمية من خلال الإحصاءات والتجارب لفهم المجتمع، وتؤمن بإمكانية مراقبة الظواهر الاجتماعية وصياغة معرفة قابلة للتحقق. ترى الوضعية أن علم الاجتماع يجب أن يركز على ما يمكن ملاحظته بالحواس، وأن النظريات الاجتماعية ينبغي أن تُبنى بأساليب منهجية صارمة قابلة للتحقق التجريبي. وقد سعى رواد الوضعية إلى تحويل الفلسفة إلى علم، عبر تنقيتها من الميتافيزيقا والمفاهيم غير القابلة للتحقق.
مبادئ الفلسفة الوضعية :
تقوم الوضعية على مبادئ أساسية، أهمها:
-وحدة منطق البحث في جميع العلوم.
-هدف العلم هو التنبؤ والسيطرة على الظواهر.
-المعرفة تقوم على الملاحظة التجريبية المرتبطة بالحواس.
-ضرورة إخضاع العلم للمنطق الخالي من الأحكام القيمية.
ويعتقد كونت أن المجتمع يمر بثلاث مراحل في تطوره هي:
-المرحلة اللاهوتية العسكرية: حيث يفسر المجتمع الظواهر استنادًا إلى قوى خارقة وتكون السلطة ذات طابع عسكري.
-المرحلة الميتافيزيقية القانونية: حيث تتركز التفسيرات على مفاهيم مجردة وتبدأ المؤسسات السياسية والقانونية بالتطور.
-المرحلة العلمية الصناعية: حيث تعتمد المعرفة على التفسير العلمي القائم على الملاحظة والتجربة، وتبرز العلوم كقوة أساسية في المجتمع.
وترى الوضعية أن الفلسفة ليست منفصلة عن العلم، بل مهمتها تحديد المبادئ العامة المشتركة بين العلوم.
أنواع الفلسفة الوضعية..
تنقسم الوضعية إلى ثلاثة أنواع رئيسة هي:
الوضعية الاجتماعية: ذات طابع عملي سياسي، تسعى إلى إعادة تنظيم المجتمع وفق أسس علمية، من خلال قوة العلماء والصناعيين، ويمثلها أوغست كونت وجون ستيوارت ميل.
الوضعية التطورية: ذات طابع نظري، تفسر التقدم الاجتماعي استنادًا إلى علوم الطبيعة كعلم الأحياء والفيزياء، ويعد هربرت سبنسر ممثلها الأبرز، وهي أقرب إلى الميتافيزيقا المادية أو الروحية.
الوضعية التجريبية النقدية: ظهرت أواخر القرن التاسع عشر مع إرنست ماخ وريتشارد أفيناريوس، وتركز على أن الحقائق هي تنظيم ثابت للإحساسات، وترى أن العناصر الأولية للواقع محايدة (ليست مادية ولا نفسية)، وتعتبر العلم أداة تكيفية تساعد الإنسان على التعامل مع تدفق الإحساسات وتنظيمها بما يضمن البقاء.
نقد الفلسفة الوضعية
يعتبر كثير من الفلاسفة المعاصرين أن الوضعية قد فقدت مكانتها كاتجاه فلسفي مؤثر، رغم استمرار تأثيرها في بعض الأوساط العلمية. ويعود تراجعها إلى أسباب عديدة، أهمها:
-غياب معيار محدد للتحقق التجريبي يصمد أمام النقد.
-استحالة وجود منهج علمي موحد لكل العلوم، إذ تختلف مناهج العلوم الطبيعية والاجتماعية اختلافًا جوهريًا.
ولا يعني زوال الوضعية فقدان التمييز بين العلم الحقيقي والعلم الزائف، لكنه يدل على غياب أساس فلسفي واحد لهذا التمييز، مع إدراك أن الميتافيزيقا لا يمكن استبعادها بالكامل حتى من العلم ذاته.